تقنيّة 12: القراءة بحسب التحليل النفسيّ (lecture psychanalytique)



وصف التقنيّة:

ترتكز هذه القراءة على استعمال تقنيّات التحليل النفسيّ المتنوّعة من وجهة نظرٍ روحيّة وهذا ما يُعرَف أيضًا بعلم النفس الروحيّ (psycho-spirituel). ليس هناك من طريقةٍ موحّدةٍ لمقاربة النصوص البيبليّة بواسطة هذا التحليل، إذ إنّ نقطة الانطلاق تبدأ من المقاربات العلميّة المختلفة التي اعتمدها كلّ من فرويد (Freud) ويونغ (Jung) وصولاً إلى بالماري (Balmary) وشتاين (Stein) ودولتو (Dolto). بالإضافة إلى اختلاف أسس هذه المقاربة باختلاف النظرة الإيمانيّة إلى الكتاب المقدّس من جهة والنظرة العلميّة إلى التحليل النفسيّ وتطوّره من جهة أخرى.

تختلف أيضًا طريقة هذا التحليل بحسب أنواع الروايات: الأمثال، الخطب، المزامير، القصص، المحادثات، الرسائل... والجدير بالذكر أنّه يأخذ بُعدًا خاصًّا ومهمًّا عندما يكون النصّ مناقشةً إذ يُعتَبره كحديثٍ يجري في "العيادة النفسيّة"؛ فيُصار بالتالي إلى درس "الحالة" في سبيل الوصول إلى "تشخيص العقدة" وكشف طريقة التعاطي مع صاحبها.

 

لقراءة المشهد الكتابيّ بحسب التحليل النفسيّ أقترح الخطوات العمليّة التالية:

  • اقرأ النصّ بهدوءٍ وتمعّن.
  • ضعْ خطًّا تحت المظاهر النفسيّة الواردة في النصّ:
    •  ردود الفعل.
    •  التفاعلات العاطفيّة.
    •  المواقف والسلوكيّات.
    •  حركات الجسد.
    •  عُقَد واضطرابات...
  • انتبه إلى الكلمات وصنّفها وحدّد ما هو الاتّجاهُ النفسيٍّ الذي تعكسه.
  • هل من عاطفة أو موقف أو حالة تعكس نفسيّتك في الوقت الحاليّ؟
  • ضعْ كلّ ما استنتجت في دائرة الصلاة.

مثال تطبيقيّ:

لقاء يسوع بالمرأة السامريّة (يوحنّا 4):

يشمل هذا النصّ نوعَين من الروايات: السرد والمحادثة. فقبل أن يعرض الإنجيليّ الرابع مضمون المحادثة التي تجري بين يسوع والسامريّة وبين يسوع والتلاميذ يُظهر لنا الإطار الخارجيّ الذي تجري فيه الأحداث. سنحصر عرضنا لمقاربة التحليل النفسيّ ببعض الاستنتاجات فقط.

أ- إطار المحادثة:

المكان والزمان اللذان يتمّ فيهما هذا اللقاء غير المرتبط بموعدٍ سابق، يعطيان الأحداث معنًى أساسيًّا. فالمكان هو أرض يعقوب حفيد إبراهيم أبي شعب الله المختار، حيث البئر التي شرب منها هو وعائلته وغنمه، والتي أعطاها لأولاده. السامريّة تسميّها بئرًا، أمّا يوحنّا فيسمّيها ينبوعًا (ويسوع سيتحدّث عن ينبوع ماء يتفجّر لحياة أبديّة)، لأنّها مكان "تاريخيّ" حصل فيه الشعب اليهوديّ على حياة بواسطة يعقوب.

أمّا الزمان فهو "الساعة السادسة" أي ظهرًا حيث تكون الشمس في حالة عموديّة بالنسبة إلى الأرض وإلى الأشخاص وإلى البئر. الشمس تطاول الماء ويسوع يطأ الأرض التاريخيّة ورأسه متّجه نحو الشمس العموديّة. إنّها صورة اللقاء بين البُعد الجسديّ (charnel) والبعد الروحيّ. إنّه لقاء السماء بالأرض دون ظلّ. فالمكان هو إذًا وريد الحياة للشعب اليهوديّ، واليوم معطي ماء الحياة ليس يعقوب بل يسوع. مع الآباء ومع يعقوب كانت الولادة، مع يسوع ستكون الولادة الثانية.

يُبرز يوحنّا مثلاً نوعين من الشرب ونوعين من الأكل. شرب المياه وأكل الطعام اللذين نعرفهما بحواسّنا، وفيضان ماء حيّ حقيقيّ روحيّ وتتميم إرادة الآب. فهناك حياة للشوق (désir) لا تعرفها حياة الحاجات (besoin). فعندما كان يسوع تعبًا وجائعًا وعطشانًا، نسي عطشه المادّيّ لأنّ المرأة عندما فهمت رسالته روت غليل شوقه؛ لقد كشف لها وجه الآب الذي يعرفه وأظهر لها مفهوم عبادته بالروح والحقّ. نسي أيضًا جوعه، لأنّ شوقه إلى تتميم إرادة الآب محا حياة الحاجة. هكذا يُظهر يسوع أنّ في شخصه تتّحد السماء والأرض، الينبوع والشمس العموديّة؛ إنّه يعقوب الجديد والمسيح الذي سيأتي. فيه يتّحد الزمان الماضي بالزمان الآخَر؛ الساعة التي ستأتي حاضرة الآن، والشهور الأربعة تذوب في اللحظة الحاضرة.

 



ب- مضمون المحادثة:

يبدأ الحوار بتعبير عن حاجة: يسوع يطلب من السامريّة أن تعطيه ليشرب. جوابها لا يخلو من الإثارة: "كيف تطلب منّي...". فخبرتها مع الرجال الذين التقت بهم دفعتها إلى مثل هذا الجواب- السؤال المُغوي. من هذا الفهم لطلب يسوع نستنتج أنّها فهمت أنّ يسوع يطلب منها شيئًا آخر غير الماء.

علمت السامريّة أن لا دلو ليسوع والبئر عميقة. وبعدما شرح لها عن الماء الذي يعطيه، طلبتْ منه الماء. لكنّ يسوع يرسلها إلى زوجها. أجابته أن لا زوج لها؛ أي أنّها حرّة، غير مرتبطة. وبما أنّ يسوع عفيف جعلها تكتشف رمزيّة الماء الحيّ من خلال حياتها الجنسيّة الخاصّة.

حاولت السامريّة أن تتحوّل نحو يسوع. حوّلها يسوع إلى رجلها بقوله: "اذهبي ادعي رجلك وتعالي إلى هنا"؛ فيسوع لا يُريد أن يدخل المرأة في الحياة الروحيّة إذا كانت تمزج بين الحياة الروحيّة والحياة الجنسيّة. رجلها للحياة الجنسيّة ويسوع للحياة الروحيّة. عفّة يسوع تكمن في عدم إجابته على حاجة المرأة الجنسيّة ليستطيع جذبها إلى نوع آخر من الشوق.

اكتشفت المرأة أنّ حياتها لن تستطيع أن تروي غليلها. ففي عمق هذه الحياة هناك نقص يدفعها لتبحث، من رجل إلى آخر، عن اللذّة والأمان. يقول المبدأ النفسيّ إنّه عندما يبحث الإنسان عمّا ينقصه، يبحث في الوقت عينه عن الاستقرار والأمان، أي عن تكرار ما يعرفه، عن تكرار اللذّة التي يعرفها؛ كما هي حال المرأة السامريّة بانتقالها من رجل إلى آخر. كشف لها يسوع أنّ وراء اللذة التي تمتزج بالحاجة، هناك شوق يبقى غير مرتوٍ لأنّها لا تراهن على الحبّ.

يُظهر لها يسوع بأنّها إن أرادت أن تتوقّف عند جسدها ولذّته، لن تستطيع الوصول إلى الأبعاد التي يتوق إليها كيانُها. فيسوع لم يحقّق طلب المرأة، بل دعاها إلى الارتفاع إلى مستوًى آخر. سيجعلها تكتشف أنّها، من خلال جميع الرجال الذين سعت معهم إلى إطفاء غليلها ومن خلال حاجتها إلى الاستقرار ومن خلال رغباتها الجسديّة، كانت تبحث عن شيء آخر. لقد رأت في يسوع الشخص الذي يملأها. لم يقتصر عمل يسوع على البُعد النفسيّ فقط بل تخطّاه إلى البُعد الروحيّ: "لو كنت تعرفين عطيّة الله... الآب يبحث عن عابدين بالروح والحقّ...".

خلاصة:

انطلق يسوع من حياة السامريّة اليوميّة والشخصيّة. كشف لها بعضًا من أسراره: قال لها ماذا يمكنه أن يعطيها، كشف لها من هو. تكلّم معها أيضًا عن مغامراتها الخاصّة. لم يخش ما سيقوله التلاميذ عندما سيرونه يتكلّم معها. بهذه الطريقة كشف لها أنّه مختلف عن كلّ الذين التقت بهم في السابق. لم تعرف من هو، ولكنّها رأت أنّه لا بدّ من أن يكون المسيح لكي يتكلّم بهذه الطريقة.

وجدت هذه المرأة في يسوع ما كانت تبحث عنه ربّما في علاقتها السابقة. كلام يسوع جعلها تكتشف الفرح الذي يتخطّى النشوة، كشف لها قيمتها التي تتخطّى جمالها، كرامتها التي تفوق سحرها. جعلها تنفتح على علاقة تُروي غليلها، على تبادل لا يرتكز فقط على حاجات الجسد كالعطش بل على الشوق الذي يسعى متخطّيًا الجسد. فالحبّ يكشف أنّه إذا لم يكن بالإمكان امتلاك الآخر فكلّ لقاءٍ يمكن أن يكون انفتاحًا على اتّحاد قلبيّ بواسطة الحقّ الذي يعطي نفسه وعلى اتّحاد بالكلام الذي يُحييه الروح. إنّه السؤال الذي أوصل يسوع إلى كشف حقيقة الآب وحقيقة عبادته بالروح والحقّ.

مزايا هذه التقنيّة:

  • تصلح هذه التقنيّة لتكون بخدمة دارسي العلوم الإنسانيّة...
  • عمليّة التحليل النفسيّ لمشهدٍ كتابيّ سيضعني أكثر فاكثر في قلب هذا المشهد، فأنتقل من بُعد المراقِب إلى بُعد المعالَج...

ملاحظة:

إيّانا المبالغة والشَطّ عن المضمون والخروج عن إطار النصّ نحو عناصر التخمينات والتقويلات...